أسرار الأيام الأخيرة فى حياة المشير الراحل / أبو غزالة

لم يكن الخبر سرا، فمنذ شهور كشف الستار عن إصابة المشير عبد الحليم أبو غزالة بسرطان في الفك، اكتشفه طبيب الأسنان الذي كان يعالجه، وقتها كذب البعض الخبر، لكن لا شيء فوق هذا التراب لا يري، وقتها كان المشير قد عاد من فرنسا التي سافر إليها ليعالج في معهد "باستير" وهو أشهر مركز لعلاح الحالات المماثلة لمرض المشير.

كان الاقتراح الأول هو أن يتم العلاج من خلال الكيماوي، لكن كانت هناك عقبتين أمام هذا العلاج، الأولي أن اكتشاف المرض جاء متأخرا جدا، فقد وصل إلي أماكن حساسة من جسم المشير، والثانية هي الحالة الصحية العامة للرجل الذي تجاوز الثمانين من عمره والتي لم تعد تحتمل أنواعا من الأدوية اللازمة لعلاج هذا المرض، هذا غير آثارها الجانبية علي القلب والكلي ووظائف الكبد.

كان القرار هو أن يتم علاج المشير بطريقة تضمن علي الأقل ألا ينتقل المرض إلي أماكن أخري في الجسد، لكن يبدو أن هذا كان حلما بعيد المنال، عاد من فرنسا ورغم التعب الشديد إلا أنه لم يبدو مستسلما، حاول أهله وأقاربه أن يتعاملوا معه بطريقة عادية لا تشعره بأنه مريض، حتي لا يؤثر ذلك علي معنوياته فتتدهور حالته أكثر.

منذ حوالي شهرين تقريبا شعر أبو غزالة بالتحسن، وبدأ ينزل إلي النادي الذي انقطع عنه لفترة، يقابل بعض الأصدقاء ويقوم بممارسة بعض التمارين الخفيفة، لكن منذ أقل من شهر شعرت عائلة أبو غزالة أن حالته الصحية في تراجع مستمر، بل شعر هو شخصيا أنه ينهار صحيا وأن جسمه لم يعد قادرا علي المقاومة، كان من المفترض أن ينقل إلي مستشفي وادي النيل، لكنه أصر علي أن يدخل مستشفي الجلاء العسكري، ففي أي مكان عسكري يشعر أنه يعيش في بيته، دخل الجلاء العسكري بالفعل، ولم يعرف أحد بالخبر حتي الأسبوع الماضي، حيث تدهورت حالة المشير بشدة وهو ما استدعي إدخاله غرفة العناية المركزة.

قررت الرئاسة علي الفور أن يسافر أبو غزالة إلي فرنسا علي الأقل ليكمل علاجه، لكن طاقم الأطباء الذي يشرف علي علاجه رفع تقارير عاجلة إلي الرئاسة تفيد بأن الحالة أصبحت متأخرة جدا، وأنه لا فائدة من السفر، هذا علاوة علي أن جسد أبو غزالة نفسه لم يعد يتحمل أن ينتقل أو يسافر.

اكتفت الرئاسة بإرسال مندوب منها إلي مستشفي الجلاء للاطمئنان عليه ونقل تحيات الرئيس إلي الجنرال المريض، لكن المندوب لم يتمكن من رؤية أبو غزالة أو الدخول عليه في غرفة العناية المركزة، وهناك تفسيران لذلك أحدهما أن حالة أبو غزالة الصحية لا تتحمل استقبال أحد، والثاني أنه هو الذي رفض استقبال مندوب الرئاسة لأنه لا يريد أن يراه أحد وهو في هذه الحالة خارج إطار أسرته وأصدقائه المقربين رغم أن عددا كبيرا من هؤلاء الأصدقاء المقربين لم يذهب إليه في شدته الأخيرة، ولذلك اكتفي مندوب الرئاسة بأن قابل أسرة المشير في الصالون الملحق بالغرفة التي يعالج فيها، حيث نقل إليهم تحيات الرئيس واطمأن منهم علي حالة المشير وقابل الأطباء المعالجين له، ليعرف منهم المدي الذي وصلت إليه الحالة.

أطباء أبو غزالة الذين نقلوا للمحيطين به أنه دخل في غيبوبة شبه نهائية - البعض يؤكد أن المشير مات إكلينيكيا - قالوا إن هذا الرجل يملك قوة تحمل غير طبيعية ، وطاقته الداخلية التي مكنته من تحمل آلام المرض تفوق طاقة الرجل العادي، أحد الأطباء أكد أنه قريب من الحالة ورغم الآلام التي يسببها هذا المرض اللعين لصاحبه إلا ان أبو غزالة لم تصدر منه ولو آهة واحدة طوال فترة علاجه.

لقد وضعت الأقدار أبو غزالة في مواطن ألم كثيرة، لكن هذه المرة المرض أقعده وهده ويكاد يقضي عليه للأبد، إن معاناة أبو غزالة لم تبدأ مع المرض ، فبعد أن ودع آخر مهامه الرسمية في 1993 عندما قدم استقالته من منصب مساعد رئيس الجمهورية، والمعاناة تلاحقه إن لم تكن تسابقه، انقطع أبو غزالة عن المشاركة في الحياة العامة، بدأ يترجم الكتب الأجنبية الخاصة بالشئون العسكرية، ومن أهمها كتاب نيكسون"نصر بل حرب"، ورغم أنه ترجم عددا مهما من الموسوعات العسكرية عن تاريخ الحروب في العالم، إلا أن هذه الكتب لم تنشر في مصر.

اقتصر نشاطه في الكتابة علي إرسال بعض المقالات إلي بعض الصحف الخليجية وخاصة الإماراتية منها، ولم يكن يسمح له بنشر المقالات أو إجراء الحوارات معه في الصحف المصرية إلا فيما ندر جدا، وقد أرسل أكثر من مرة مقالات إلي الأهرام والأخبار إلا أنها لم تكن تنشر، رغم أنه أحد القلائل في مصر - فوق خبرته ومكانته - المتخصصين في الفكر العسكري.

لقد قضي أبو غزالة سنوات ما بعد الخدمة في العسكرية والسياسة وكأنه رهن الإقامة الجبرية، لم يكن هناك قرار بمنعه من السفر ولم يدرج اسمه علي قوائم الممنوعين من السفر، لكن خروجه من مصر كان يعمل له ألف حساب، لم يكن يخرج في الغالب إلا بإذن مسبق، ولم تكن رحلاته الخارجية كثيرة، معظمها كان للدول العربية، للمشاركة في ندوات عسكرية وسياسية أو بدعوة من الجريدة التي يكتب فيها، ولم يسمح له علي الإطلاق بالخروج أو السفر لدول أجنبية خاصة أوروبا وأمريكا.

لقد تلقي أبو غزالة عدة عروض للعمل في الخارج بعد خروجه من الخدمة، لكنها تحطمت جميعا علي صخرة منعه الجزئي من السفر.

العرض الأول كان من ولي العهد السعودي وقتها - الملك عبد الله الآن - وكان يشرف علي شئون الجيش والحرس الوطني، وعرض علي أبو غزالة أن يعمل إلي جواره مستشارا عسكريا وبالمبلغ الذي يحدده ولن يراجعه فيه أحد، كان لأبو غزالة شرط واحد وهو أن يوافق الرئيس مبارك علي هذا العمل، لكن الرئيس مبارك رفض وتم إبلاغ أبو غزالة من خلال أصدقاء مشتركين أن الرئاسة تفضل عدم خروجك من البلاد للعمل في أي مكان وذلك للحفاظ علي هيبة العسكرية المصرية.

العرض الثاني كان من الرئيس العراقي صدام حسين، وجاءه تحديدا بعد تحرير الكويت وإخراج القوات العراقية من الكويت، كان صدام حسين يدرك أن هذه ليست نهاية الحرب، بل هي نهاية معركة يمكن أن تكون عابرة، ولذلك أراد أن يستعين بأبو غزالة الذي كان قد استعان به من قبل أثناء حرب إيران ، وكان أبو غزالة سببا مباشرا في تحرير البصرة من القوات الإيرانية، حملت العرض شخصية مصرية بارزة ومقربة جدا من صدام حسين، وقضي ليلة كاملة مع أبو غزالة محاولا إقناعه بقبول العرض السخي جدا، فقد أراده صدام مستشارا عسكريا له مباشرة، كانت الشخصية المصرية متحمسة للغاية، وقال لأبو غزالة يومها إنه لو كانت علي موافقة الرئيس مبارك فإنه يمكن الحصول عليها، لكن أبو غزالة رفض العرض ليس لأنه كان واثقا من أن الرئيس مبارك سيرفض مغادرته البلاد، ولكن لأنه كانت له وجهة نظر محددة في صدام حسين وتنبـأ علي وجه التقريب بالنهاية التي انتهي إليها صدام حسين، كان يري أنه سيقتل، لكن لم يصل تنبؤه إلي حد مسرحية الإعدام التي تعرض لها الرئيس العراقي.

المحاولة الثالثة كانت من العقيد معمر القذافي قائد الثورة الليبية، وهي المحاولة التي جاءت من باب النسب، فالابن الأكبر للمشير أبو غزالة- عنده ولدان وبنت - وهو الدكتور طارق تزوج من بنت أسرة ثرية جدا، وهي أسرة ليبية، ولا يزال المصريون يذكرون أن هذه العائلة زوجت أحد أبنائها في مصر مؤخرا وتكلف الفرح 50 مليون جنيه مصري، وارتبط الفرح بأنه فرح نسايب أبو غزالة، هذه الأسرة حملت عرضا من القذافي للمشير، وهو أن يتدخل القذافي بين الرئيس مبارك والمشير أبو غزالة حتي إذا ما كانت هناك خلافات في وجهات النظر، فإن العقيد يمكن أن يتدخل للتقريب بينهما خاصة أن هناك علاقة صداقة وثيقة تجمع الرجلين الكبيرين الرئيس والمشير ، لكن المشير أبو غزالة رفض هذا العرض تماما.

كان هناك عرض ثان من القذافي حمله هذه المرة أحمد قذاف الدم وأوحي للمشير أن العقيد القذافي حصل علي موافقة مبدئية من الرئيس مبارك عليه ، كان العرض بأن يعمل أبو غزالة مستشارا عسكريا للرئيس الليبي، لكن المشير اعتذر شاكرا الثقة ومشككا لأصدقائه في أن يكون الليبيون حصلوا علي أي موافقات لعمله أو تعاونه معهم.

وهكذا ظل أبو غزالة في مصر لا يغادرها أبدا حتي حاصره المرض اللعين الذي يبدو أنه سيكتب كلمة النهاية لحياته قريبا، ولو قرر أبو غزالة هذه المرة أن يغادر فلن يمنعه أحد فالموت لا يحتاج إلي إذن رئاسي.. أعرف أنه لا تزال في حياة الرجل أسرار لم تنشر بعد ، خاصة في سنوات ما بعد العمل الرسمي، ومن يدري فقد تفتح هذه الملفات.. ولن يكون علينا وقتها إلا أن نقرأ فقط.

منقول