من طرف الشيخ محمود الخميس 15 يناير 2009, 10:10 am
يوميات إمرأة تحت القصف..أم فلسطينية تحاول الإجابة عن أسئلة الصغار: ما هى الحرب؟..وأطفالها يقضون النهار فى عدّ القنابل
١٥/ ١/ ٢٠٠٩ |
|
|
ماجدة السقا، مواطنة فلسطينية، أم «بالتربية» لأطفال أختها تعيش فى خان يونس بوسط غزة، تحيا وسط المتفجرات.. تصحو على صوت الـ«إف ٦١»، وتفطر مع صغارها على أصوات القصف.. تقضى نهارها معهم يلهون بعدّ القنابل، ومراقبة أعداد الموتى من الجيران والأقارب ومشاهدة «ألعاب إسرائيل النارية بمناسبة أعياد الميلاد»، كتبت مذكراتها أيام القصف فكانت الكتابة وجعاً.. صراخاً.. آهة طويلة تحاول الخروج من شباك الموت المطلة والحفاظ على حق الصغار فى الحياة. تستذكر مع الجدة حروباً ماضية وتحاول الإجابة عن أسئلة الاطفال الصعبة: ما هى الحرب؟ لماذا يحارب أحدهم؟ لماذا لا تعود العصافير إلى عشها؟ تكتفى بتهدئة أطفالها وكتابة مذكراتها لتسجل بإنسانية يوميات حرب غزة. ٢٧ ديسمبر ٢٠٠٨ كان عندى شعور قوى أن الإسرائيليين سيهجمون علينا فى أيام عيد الميلاد. أنا أعرف فى قرارة قلبى أن الاتحاد الأوروبى والحكومة الأمريكية لا يهمهما أمرنا كثيرا، ولكنى كنت أعرف فى نفس الوقت أن الإسرائيليين سيختارون التوقيت الذى يعطيهم أطول مهلة لتنفيذ مجازرهم. ومع ذلك لم أتخيل للحظة أن الوضع سيكون بهذا السوء. فى حوالى الساعة ١١ أو ١١:٣٠ صباحا شعرت وكأن هناك زلزالاً يقوّض خان يونس وصوتاً لم أسمعه فى حياتى من قبل.. ولا حتى عندما استخدم الإسرائيليون قنابل الصوت منذ عدة سنوات هنا. أول ما خطر على قلبى كان أمى، وأخواتى وأولاد أخواتى الذين ذهبوا إلى المدرسة والحضانة. كنت قبل الهجوم فى الطابق العلوى أتأهب لاختطاف حمام سريع قبل أن تنقطع الكهرباء مرة أخرى، فمنذ أكثر من أسبوع وأنا أتحمم بالماء المثلج لأن الشمس ليست بالسطوع الكافى لتسخين المياه بالطاقة الشمسية، والكهرباء تأتى لمدة غير كافية أو بقوة غير كافية لتسخين المياه للاستمتاع بـ«دش لوكس» لمدة خمس دقائق! اندفعت هابطة الدَرَج أسرع من الأصوات التى أسمعها. التقت عينى بعيون أخواتى، ثم نظرت فى عين أمى وفى لمح البصر كنت ألتهم المسافة التى تفصلنى عن الحديقة للبحث عن الأطفال الذين ذهبوا للحضانة والمدرسة. ابن أختى البالغ السادسة كان يؤدى امتحانا فى ذلك اليوم ولذلك رجع مبكرا، الاثنان الآخران كانا على باب الحديقة، أحضرهما جارنا معه بالصدفة وهو يحضر ابنه من المدرسة. كان الأولاد خائفين ويتكلمون عن الصوت الضخم الذى لم يفهموه. وائل ابن أختى، ذو الـ٤ أعوام، لم يكن يفهم أى شىء، لأنه لم يكن يعرف عن وجود إسرائيل بعد. الآن يعرف. كلهم يعرفون. لم يكن هناك أحد فى العائلة كلها يعرف ما يجب عمله، ولذلك التقينا كلنا فى الحديقة. آخر مرة قصفت إسرائيل، تكسرت كل النوافذ على رؤوسنا وبعض الأبواب تحطمت. هذه المرة القصف أكثر عنفا، ولذلك فكرنا أن الحل هو أن نبقى خارج البيت. هذا وصوت القصف مستمر والدخان يحيط بنا من كل جهة ورائحة القصف عادت لتسمم حياتنا مرة أخرى. لمدة ساعة كنت أحاول أن أتصل بأخى وعائلته فى مدينة غزة لأطمئن عليهم. التليفون الأرضى والمحمول كانا خارج الخدمة! بعد ساعة نجحنا فى الاتصال بأحدهم، ابن أخى، عزام، وهو يعمل مع الأمم المتحدة. قال لى أن اطمئن عليه لأنه فى أحد مخابئ مبنى الأمم المتحدة فى غزة. وكانت أول مرة أعرف أن هناك مخابئ فى غزة! بعد ساعتين بدأت رسائل المحمول تنهمر علىّ لتطمئننى عليهم ولكن... كل منهم كان عنده قصته عن هذا الزلزال الصناعى. فيما بعد اكتشفنا أن القصف حدث فى كل مكان فى القطاع فى نفس الوقت. الحمد لله أننى وعائلتى كنا من المحظوظين فلم نكن بين مائتين من القتلى الذين سقطوا فى أول ٥ دقائق من الهجوم. آخر ٢٠ يوما قبل القصف كنا نعانى أزمة غاز للطهى من بين أزمات أخرى. الشهر الماضى ابن خالى أعطانا أنبوبة بها ٦ كج غاز. فى صباح السبت الأسود ٢٧ ديسمبر ٢٠٠٨ قبل الهجوم مباشرة كنا قد نجحنا فى الحصول على بعض الغاز من السوق السوداء، وبالرغم من أنى دائما أحاول تفادى السوق السوداء، فإن هذه المرة لم يكن عندى اختيار. ملأت أنبوبتنا وأنبوبة ابن خالى، ودفعت ٤ أضعاف الثمن الطبيعى. دار ابن خالى على بعد ٥ دقائق بالسيارة. فى الساعة الخامسة توقف القصف فشعرت أن بالإمكان أن أذهب بالسيارة سريعا إلى دار ابن خالى وأعطيه أنبوبته. أصر الأولاد على المجىء معى وبدأوا فى البكاء فوافقت. قدت السيارة حول البيت ودخلت الشارع من الخلف ولكنى تذكرت أن فى هذا الشارع يوجد قسم شرطة، فقررت أن أذهب عن طريق الشارع الآخر. بدأت فى التراجع بالسيارة وانطلقت فى الطريق الموازى لأجد أمامى طائرة تقصف سيارة. الأطفال رأوا النيران وسمعوا الصوت. خافوا. قلت لهم وأنا أتراجع بسرعة بالسيارة إن هذه ألعاب نارية احتفالا بأعياد الميلاد والعام الجديد. لم نستطع الرجوع للبيت لأننا وجدنا جنازة جارنا تخترق الشارع وجمهور المشيعين كبير وسيارات كثيرة تملأ الشارع، فقررت أن أمضى قدما وأتوجه إلى ابن خالى وأعطيه الأنبوبة. فى طريق العودة مررنا بانفجار كبير فى مركز شرطة بالمدينة. تركنا «الألعاب النارية» وراءنا ورجعنا إلى البيت. أمى تستقبلنا بخبر قصف مدينة ملاهى الأصداء، وهى «مدينة ملاهى» جديدة أقيمت فى المكان الذى كانت به المستوطنات الإسرائيلية قبل الإخلاء على أطراف خان يونس. أرسلان ابن أخى ذو الـ٥ أعوام غاضب جدا، لأنه مثل كل الأطفال يعشق هذا المكان لأن به أحواض سمك وحديقة حيوان صغيرة ومطعماً. أرسلان يبكى ويبكى. وأنا لا أستطيع أن أعده بأى شىء «لا تقلق سنجد حتما أماكن أكثر جمالا». تأكدنا أن كل الأطفال ناموا فى أحضاننا أولا ثم حملناهم إلى أسرتهم فى الدور العلوى حتى يشعروا بالألفة فى فراشهم. لم أستطع النوم طوال الليل. أستمع إلى القصف، أتصل بالأصدقاء والعائلة للاطمئنان. أستمع إلى الراديو لأن الكهرباء مقطوعة ولا يمكن المتابعة عن طريق التليفزيون. وألعن نفسى على غبائى واصطحابى الأطفال خارج المنزل! هل هو نقص فى حساسيتى، أم فى حساسية الإسرائيليين، أم حساسية العالم! هل يصح اصطحاب الأطفال خارج المنزل؟ بالطبع نعم، ولكن ليس فى غزة وليس الآن، ولا فى أى وقت. ٢٨ ديسمبر ٢٠٠٨ فى الصباح وائل يستيقظ ويرينى إصبعه المتورم «انظرى، هذا من القصف والغارات!». أسأله: «متى؟». «بالأمس بينما كنت نائما، ضربونى» قلت له: «أنت تكذب» يبتسم ويقول: «أنت أيضا تكذبين»! ٣١ ديسمبر ٢٠٠٨ بالأمس اتصلت بصديقتى وفاء، التى تعيش فى مدينة غزة، فى حى تل الهوا، لأطمئن عليها. تقول وفاء إنها بخير ومحظوظة لأن يوم السبت الأسود عندما بدأ الهجوم كانت تستعد لتنظيف البيت كله ولذلك كانت كل نوافذ وأبواب شقتها مفتوحة فلم يتحطم منها شىء. جيرانها الذين لم يخططوا للتنظيف فى هذا التوقيت المناسب تكسرت نوافذهم وأبوابهم. والآن يلجأون إلى بيتها للاحتماء فى الدور الثانى. وقالت لى أيضا إن كل يوم بعد الساعة السابعة مساء يتجمع فى بيتها كل الجيران. النساء فى غرفة والرجال فى الغرفة الأخرى. وكنت أسمع أصوات الأطفال يبكون وأصوات الكبار يقلقون فى الخلفية عبر الهاتف. وقالت لى وفاء أيضا «ميرا ابنتى هى أكثر من أصيب بالخوف، هل تتذكرينها؟». «ففكرت أن آخذها خارج المنزل حتى ترى بعينيها حقيقة غزة أحسن مما تتخيل، تعرف أننا كلنا نعيش نفس الظروف، وأن ظروفنا أفضل من غيرنا. فخرجت معها نمشى وليتنى لم أفعل». «عندما رأيت ما رأيت، دب الخوف داخلى أنا» شرحت لى وفاء. «كنت أود أن أغمى عيون ابنتى وأركض عائدة للبيت. لعنت نفسى لخروجى بها من الشقة. ولكنى لم أكن أتوقع أن أرى غزة وقد تحولت لهذا الشكل فى أقل من يوم! لو رأيت الحى الذى نسكن فيه لما تعرفت عليه». وأضافت وفاء بصوت تشوبه الهيستريا: «تعرفين يا ماجدة، نحن كلنا بخير. حقيقى. هناك مشكلة واحدة، وهى الكهرباء التى انقطعت منذ أول يوم (أى منذ ٥ أيام) ولم تعد حتى الآن. ومنذ ذلك الوقت وأنا أخبز الخبز عند جيراننا فى المبنى المجاور. هم لحسن حظى يمتلكون مولد كهرباء». «بصراحة، البرد والخبز والمبنى وكل هذا ليس المشكلة بالنسبة لنا، اليوم...» تستطرد وفاء، «المشكلة الحقيقية اليوم هى هذا الصاروخ الذى لم ينفجر أمام المبنى». «أى صاروخ؟». «طائرة إف ١٦ ألقت بصاروخ ولم ينفجر. اتصلنا بكثير من الناس ولكن لا يستطيعون عمل شىء، الكل خائف أن ينفجر أو تفجره قذيفة أخرى من طائرة إف ١٦ إذا اقتربوا منه». «ماذا تعنين، هل الصاروخ لا يزال أمام المبنى؟». «لا، لم يعد أمامه مباشرة. الدفاع المدنى أتوا وربطوه بحبل وسحبوه نحو بحر الطريق. ثم غطوه بالرمال حتى لا يؤذى الأطفال أو غيرهم». ٢ يناير ٢٠٠٩ وائل استيقظ مبكرا اليوم، إنه ناقم على هذا الصباح. أتى عاقدا حاجبيه، احتضننى وهو يقول: «أنا لا أريد احتضانك أو تقبيلك اليوم» فأسأله: لماذا؟ «أنت وعدت بشجرة الكريسماس ولم تأت بها، وعدت بأن تأخذينى إلى الشاطئ عندما يسقط المطر ولم يحدث، ووعدت بمراقبة الطيور فى السماء والآن لا تسمحين لنا حتى بالخروج من حجرة الاستقبال إلى الحديقة. وائل يعشق مراقبة الطيور. له الآن ٦ أيام يلاحظ السماء ويتساءل لماذا تتأخر الطيور فى الذهاب إلى عشها فى المساء. قال لى إن الطيور كانت تذهب إلى عشها مباشرة كل يوم، وفى بعض الأحيان تقوم الطيور بلفة أو لفتين إضافيتين حول المنزل قبل أن تختفى. أمس كان وائل يلاحظ الطيور عندما ظهرت طائرة إف ١٦ وبدأت تحوم فى الأجواء. طارت العصافير إلى اليمين ثم إلى اليسار وإلى اليمين مرة أخرى، وفى كل مرة تجد العصافير بقعة تبدو آمنة فى السماء تسقط قنبلة فى مكان وتنتفض العصافير فى الاتجاه المعاكس. فى البداية أعجبت وائل اللعبة ونادى على إخوته ليروا معه الطيور فى حركاتها الفجائية. ولكن وائل غاضب اليوم، شعر أن العصافير لا تلعب. يقول لى: «ليلة أمس عندما كنت نائما ضربتنى الطائرات فى إصبعى مرة أخرى. أعرف أنك لا تصدقينى، ولكنها سقطت وأشعلت النار فى الحديقة. كنت أشم رائحة النار». «ماذا كنت تفعل؟». «كنت أبحث عن طائرتى حتى أصعد وأصحب كل العصافير إلى أمها لأنها كانت تنادينى وتطلب المساعدة». «وهل ساعدتها؟». نظر إلىّ نظرة غاضبة جدا وقال: «طبعا لأ». «لماذا؟». «لأنك لم تشتر لى طائرة، ولذلك لم أستطع أن أفعل أى شىء لمساعدتهم والآن هم غاضبون منى». نظرت إلى وائل وقلت له: «اسمع عندما تنتهى هذه الحرب سوف أشترى لك طائرة كبيرة بجهاز تحكم عن بعد». يسألنى: «ما هى الحرب؟» «الحرب هى ما نعيشه الآن، مثل ما تراه فى أحلامك». «ولماذا يقوم أى أحد بالحرب؟» أعتقد أنه بدأ يفهم الفكرة فاستمر: «ما الذى يجعل أى شخص يتمنى الا تعود العصافير إلى عشها؟» أنظر إلى وائل مرة أخرى وأقول له: «الآن سأعطيك أنا حضناً وأنت ستسامحنى على كل الأخطاء التى ارتكبتها فى الأيام السابقة. عندى أعمال يجب أن أقوم بها الآن، وسنستأنف فيما بعد». هو سعيد الآن بوعدى الجديد وأنا سعيدة أننى استطعت إنهاء الحوار. ٤ يناير ٢٠٠٩ أمس كان أكثر الأيام صعوبة فى حياتنا، نعم، أعتقد ذلك. أمى قالت لنا إن حتى حرب ٦٧ لم تكن بهذا السوء. بلا كهرباء وتقريبا بلا ماء والبرد يقارب التجمد، والأبشع هو البرد المصاحب بأوركسترا الحرب. المدرعات تقصف من الأرض، إف ١٦ تقصف والطائرات الآلية تزأر فى دوائر منخفضة حولنا طوال النهار والليل بلا توقف، ويصدر عنها هذا الصوت المؤذى كالنحلة داخل الأذن. بالإضافة إلى صوت القصف من جهة البحر. أنغام الحرب، هذا هو الاسم الذى أريد استخدامه. بهذه الطريقة أستطيع أن أرد على سؤال وائل، إنه لا يتوقف عن طرح نفس السؤال «ما هى الحرب؟ من بدأ الحرب؟ لماذا الحرب؟». ربما بإضافة كلمة «أنغام» سأشتت ذهنه ويبدأ فى السؤال عن معنى النغم. للأسف لم يسألنى وائل عن معنى النغم. بدلا من ذلك يسأل «لماذا يريد الطيار أن يقتل العصافير؟ لماذا يكره الطيار العصافير؟ ربما لا يعرف الطيار أن للعصافير روحاً مثلنا». يصدمنى سؤاله: «ربما لا يعرف الطيار أن للعصافير روحا؟». أطلب من وائل أن يدخل البيت لأن البرد لا يطاق خارجه. عصافيره لم تعد تحلق فى السماء. «هيا بنا نلعب لعبة الاسكا». «ما هى لعبة الاسكا؟» «إنها لعبة جديدة، هيا نلعبها كلنا مع جدتك. كل منا يأتى بغطاء من حجرته ويلف نفسه به من قمة رأسه حتى أخمص قدميه». لا أعرف إن كنا نحاول أن نستدفئ أم نختبئ من القصف، على أى حال شعرنا بتحسن، حيث لم تكن هناك كهرباء أو عصافير للترويح عنا». «هيا يا وائل أنت رئيس الاسكا، ونحن شعب الاسكا، ماذا تريدنا أن نفعل؟» قلت ذلك لأبدأ اللعبة. «أطلب منكم الذهاب لشراء طائرات وقفص وحبوب» وهو يمص إصبعه. «لماذا؟ اشرح لنا». «أريد أن أطير لفوق فوق حتى أصل إلى الله. سآتى بكل عصافيرى وأضعها فى القفص. سأطير مرة أخرى وأمسك بالطيار. سآتى به إلى هنا وأعطيه الحبوب ليطعم العصافير». أنظر إلى وائل بينما يستمر القصف، إنه فى غاية القلق. كنت أعتقد أن لعبة الاسكا وسيلة جيدة للتفكير فى شىء آخر وبعث بعض الدفء والحياة فى أجسامنا تحت القصف. للأسف، لم تكن فكرة جيدة. ولذلك امتثلت لأوامر أمى «هيا بنا نلتصق بعضنا البعض ونكوّن شبكة أحضان». وفعلا شعرنا بدفء حقيقى والقليل جدا من الأمان. أستمر فى الاستماع للأنغام القادمة من الخارج، وبدأنا نعد القنابل المتفجرة. ١، ٢، ٣،.. ...٢٢... ٢٨.. ليس هناك بين الأطفال من يستطيع العد أكثر من ٥٠ فتوقفنا عن العدّ. كنا قد تركنا النوافذ والأبواب مفتوحة لأن قصف «إف ١٦» بإمكانه تحطيم الأبواب وزجاج النوافذ. حدث ذلك من قبل، فى مارس ٢٠٠٨ عندما قصفوا المبنى المقابل لنا. ولكن فى تلك الأيام كان هناك زجاج فى الأسواق. هذه المرة لا يوجد أى شىء بالمرة فى الأسواق، مما يعنى أنه إذا تحطمت النوافذ الآن فمن المحتمل أن نقضى ما تبقى من الشتاء وهو طويل بدون أبواب أو نوافذ زجاجية. إذا فلنبق على شىء من السيطرة ولو من باب التغيير، ودعنا نختر أن نبقى النوافذ والأبواب مفتوحة. تمضى ٥ ساعات طويلة والوضع كما هو. التغيير الوحيد هو أننا لاحظنا أن صوتا جديدا أضيف على أوركسترا أصوات الحرب: صوت سارينة الإسعاف ذهابا وإيابا. طلبت من الأطفال أن يناموا بالطابق السفلى معنا. وائل يرفض ويصر: سأنام فى فراشى، لأنى لو لم أنم فيه سيقصف الطيار البيت». حاولت إقناعه أن بقاءنا معا سيجعلنا نشعر بالدفء. ينصاع فى النهاية ولكنه يستيقظ ويطلب الصعود إلى فراشه للاطمئنان على فراشه وعلى غرفته وعلى لعبه وعلى حقيبة المدرسة. فى نهاية الأمر أحسسنا أنه سيكون أكثر أمانا إذا استقر فى مكان واحد فصعدت كل عائلته للنوم فى الطابق العلوى بالرغم من أنه أكثر برودة وأكثر خطورة. بعد أن ذهب الجميع للنوم عاد التيار الكهربائى. كانت الكهرباء قد انقطعت لمدة ٢٤ ساعة كاملة. لذلك قررت أن أستفيد برجوعها أقصى استفادة. أولا: دش ساخن. ولكن للأسف لم أفلح لأن التيار كان ضعيفا فلم تسخن المياه. فجلست أمام الكمبيوتر وأنجزت بعض العمل الضرورى، وكتبت عدة رسائل على الإيميل إلى أصدقائى وأهلى خارج فلسطين حتى أهدئ من روعهم وأؤكد لهم أننا كلنا بخير وأحياء ليوم إضافى من أيام الحرب على غزة. ٥ يناير ٢٠٠٨ قال لى وائل وهو فى طريقه إلى الفراش لينام: «الحقيقة، إنى أحب الحرب». أسأله: «لماذا؟» «لأنى لا أحتاج أن أغسل وجهى ويدىّ فى البرد. لا أحتاج للذهاب إلى الحضانة فى الصباح». «ولكن لن تستطيع أن تعد القنابل إذا لم تذهب إلى الحضانة، لأنك لا تستطيع العد أكثر من ٥٠». «أنا لا أحب عد القنابل على أى حال».. يجاوبنى وهو يصعد الدرًج. أشعر بالغباء لأنى جعلت هذا الطفل يعد القنابل. أشعر بالغضب من نفسى. يعود وائل ويقول: «أريد أن أسألك: إذا كان الطفل وأبوه مصنوعين من حديد، هل تؤثر فيهما القنابل؟». «نعم». «ماذا إذا كانا مصنوعين من خشب؟». «نعم». «ولو كانا مصنوعين من شجر؟». فجأة أيقنت أنه ينتظر منى أن أقول «لا» حتى يتمكن من النوم. ماجدة السقا ناشطة فلسطينية فى مجال التنمية الثقافية
|